فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة: اختلاف العلماء في أيُّهما أفضل؛ قول الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟

اختلف العلماء أيُّهما أفضل؛ قول العبد: {الحمد لله رب العالمين}، أو قول لا إله إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله {الحمد لله رب العالمين} أفضل؛ لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله؛ ففي قوله توحيد وحمد؛ وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط.
وقال طائفة: لا إله إلا الله أفضل؛ لأنها تدفع الكفر والإشراك، وعليها يقاتل الخلق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أفضل ما قلت أنا والنبيون مِن قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له» أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه، وأن مما أنعم الله به الإيمان؛ فدلّ على أن الإيمان فعله وخلقه؛ والدليل على ذلك قوله: {رَبِّ العالمين}.
والعالَمون جملة المخلوقات، ومن جملتها الإيمان، لا كما قال القَدَرِيَّةُ: إنه خَلْق لهم؛ على ما يأتي بيانه.

.فائدة: الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل:

الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل؛ والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد؛ فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ وقد جُمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:
وأبلج محمودِ الثّناءِ خَصَصْتُه ** بأفْضَلِ أقوالي وأَفْضَلِ أحْمُدي

فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحْمَدُه حَمْدًا فهو حميد ومحمود؛ والتحميد أبلغ من الحمد.
والحمد أعمّ من الشكر، والمحمَّد: الذي كثرت خصاله المحمودة.
قال الشاعر:
إلى الماجد القَرْم الجَوَاد المُحَمَّدِ

وبذلك سُمّي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشاعر:
فَشَقّ له مِن اسمه لِيُجِلَّه ** فذو العَرْش محمودُ وهذا مُحَمَّدُ

والمَحْمَدة: خلاف المذمّة.
وأَحْمَد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد.
وأحمدته: وجدته محمودًا؛ تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته؛ أي صادفته محمودًا موافقًا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه.
ورجل حُمَدَة مثل هُمَزَة يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها.
وحَمدة النار بالتحريك: صوت التهابها.

.فائدة: ذهاب بعضهم إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد:

ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضي. وحكاه أبو عبد الرحمن السلميّ في كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء.
قال ابن عطاء: معناه الشكر لله؛ إذْ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه.
واستدل الطبري على أنهما بمعنىً بصحة قولك: الحمد لله شكرًا.
قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه؛ لأن قولك شكرًا، إنما خصصت به الحمد؛ لأنه على نعمة من النعم.
وقال بعض العلماء: إن الشكر أعمّ من الحمد؛ لأنه باللسان وبالجوارح والقلب؛ والحمد إنما يكون باللسان خاصّة.
وقيل: الحمد أعمّ، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعمّ من الشكر؛ لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمةُ كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عَطَس: الحمد لله.
وقال الله لنوح عليه السلام: {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم عليه السلام: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
وقال في قصة داود وسليمان: {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15].
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111].
وقال أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34]: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 34].
فهي كلمة كلّ شاكر.
قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان.
وعلى هذا الحدّ قال علماؤنا: الحمد أعمّ من الشكر؛ لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر؛ والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أوْلاك معروفًا؛ فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر.
ويُذكر الحمد بمعنى الرضا؛ يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته.
ومنه قوله تعالى: {مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وقال عليه السلام: «أحمد إليكم غسل الإحليل» أي أرضاه لكم.
ويذكر عن جعفر الصادق في قوله: {الحمد لله} من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد؛ لأن الحمد حاء وميم ودال؛ فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الدّيمومية؛ فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله.
وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير: {الحمد لله} قال: هو على ثلاثة أوجه: أوّلها إذا أعطاك الله شيئًا تعرف من أعطاك.
والثاني أن ترضى بما أعطاك.
والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه؛ فهذه شرائط الحمد.
أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره؛ بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيّه عليه السلام، فقال: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32].
وقال عليه السلام: «احثوا في وجوه المدّاحين التراب» رواه المقداد.
وسيأتي القول فيه في النساء إن شاء الله تعالى.
فمعنى: {الحمد لله رب العالمين} أي سبق الحمد منّي لنفسي قبل أن يَحْمَدني أحد من العالمين، وحَمْدِي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحَمْدِي الخلق مشوب بالعلل.

.فائدة: قبح حمد المخلوق نفسه:

قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده، حَمِد نفسه لنفسه في الأزل؛ فاستفراغ طَوْق عباده هو محل العجز عن حمده.
ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: «لا أُحصِي ثناء عليك» وأنشدوا:
إذا نَحْنُ أثْنَيْنَا عليك بصالحٍ ** فأنْتَ كما نُثْنِي وفوقَ الذي نُثْنِي

وقيل: حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فَحمِد نفسه عنهم؛ لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل المِنّة.

.فائدة: إجماع القرّاء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من: {الحمدُ لله}:

وأجمع القرّاء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من: {الحمدُ لله}.
ورُوي عن سفيان بن عُيينة ورؤُبة بن العَجَّاج: {الحمدَ لله} بنصب الدال؛ وهذا على إضمار فعل.
ويقال: {الحمدُ لله} بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد؛ فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمدُ لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدًا؛ إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله؛ والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله.
وقال غير سيبويه.
إنما يتكلم بهذا تعرّضًا لعفو الله ومغفرته وتعظيمًا له وتمجيدًا؛ فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال.
وفي الحديث: «مَن شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وقيل: إن مدحه عزّ وجلّ لنفسه وثناءه عليها ليعلِّم ذلك عباده؛ فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله.

.فائدة: {الحمد لله} ثناء أثنى به على نفسه:

قال الطبري: {الحمد لله} ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمرَ عباده أن يثنوا عليه؛ فكأنه قال: قولوا الحمد لله؛ وعلى هذا يجيء قولوا إياك.
وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وأعلَمُ أنّني سأكونُ رَمْسًا ** إذا سار النّواعِجُ لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم ** فقال القائلون لهم وزير

المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير.
وروي عن ابن أبي عَبَلَة: {الحمد لله} بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأوّل؛ وليتجانس اللفظ، وطلبُ التجانس في اللفظ كثير في كلامهم؛ نحو: أجُوءُك، وهو منحدُر من الجبل، بضم الدال والجيم.
قال:
اضرب الساقينُ أُمّك هابل

بضم النون لأجل ضم الهمزة.
وفي قراءةٍ لأهل مكة {مُرُدفين} بضم الراء إتباعًا للميم، وعلى ذلك {مُقُتلين} بضم القاف.
وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة اتباعا للاّم؛ وأنشد للنعمان بن بشير:
ويل أمها في هَواءِ الْجَو طالبةً ** ولا كهذا الذي في الأرضِ مَطْلُوبُ

الأصل: ويل لأمها؛ فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للام ثم أتبع اللام الميمَ. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن عليّ: {الحمدِ للهِ} بكسر الدال على إتباع الأوّل الثاني. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الحمد للَّهِ}:
الحمد هو: النعتُ بالجميل على الجميل، اختياريًا كان أو مبدأً له، على وجه يُشْعِرُ بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ، فإنَّهُ خالٍ عنها، يرشدك إلى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك: حمدته ومدحته، فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها، وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبئ عن معنى الإنهاء، كما في قولك: كَلَّمْتُه، فإنه مُعْرَب عما تفيده لام التبليغ في قولك: قلتُ، ونظيرُه وشَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه، فإن تعلّق كلَ منها منبئ عن المعنى المذكور، وتحقيقُه: أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به أيَّ فعل كان اختلاف أصلًا. وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه، فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة، فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال، وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة.
إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلًا، أو بالابتداءِ منه كالاستعانة مثلًا، اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقة بذلك النحو، مغايرة لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين.
فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة، وجُعِل كلُّ واحدٍ من القسمين الأخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له، فإن قولَكَ أعنتُه مشعر بانتهاء الإعانةِ إليه، وقولك استعنتُه بابتدائها منه، وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى، وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة، كما في قولك حدثني الحديث، وسألني المالَ، فإن التحديثَ مع كونه فعلًا واحدًا قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية، وبالحديث على الأولى، وكذا السؤال فإنه فعل واحد، وقد تعلّق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى.
ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلَ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّد ولا نَكير وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير، وإن مدارَ ذلك الاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول، وإذ لاختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق، لاختلافهما في المعنى قطعًا. هذا وقد قيلَ: المدحُ مطلق عن قيدِ الاختيار، يُقال: مدحتُ زيدًا على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ، وأيًّاما كان فليس بينهما ترادف، بل أُخوّة من جهةِ الاشتقاق الكبير، وتناسب تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول، وإنما مرادفُ النصر الإعانة، ومرادف التأييد التقوية، فتدبر.